تدخل الأزمة الليبية مرحلة جديدة وسط التفاعلات المحيطة بها سواء على صعيد الداخل أم الخارج؛ إذ وضعت استقالة المبعوث الأممي، عبدالله باتيلي، في 16 إبريل 2024؛ أي بعد نحو 18 شهراً من توليه مهام منصبه، المشهد في ليبيا أمام تحول ربما لن يختلف كثيراً عن التحولات التي طرأت على الأزمة طيلة الفترات الماضية، والتي اتسمت في مُجملها بالتعقيد والارتباك ولم تنجح في وضع حد لتضارب المصالح والحسابات الضيقة للفاعلين المؤثرين في المشهد؛ ما أفضى إلى مزيد من التكرار وإعادة إنتاج ذات المشكلات دون تغيير.
وثمة محاولات وترتيبات تستهدف كسر الجمود السياسي وتجاوز حالة الانقسام في ليبيا. ويطرح الحراك في الأزمة خلال الفترة الأخيرة، بمستوياته المختلفة، جملة من التساؤلات، سواء ما يتعلق بمرحلة ما بعد استقالة المبعوث الأممي، باتيلي، أم مواقف الأطراف الفاعلة والمؤثرة في المشهد، وطريقة التعاطي مع الملفات الخلافية، وما يمكن أن يطرأ على الأزمة في ضوء تصاعد حدة التنافس بين القوى في ليبيا. وفي هذا الإطار، يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها فيما يلي:
1- الأدوار الأممية غير المُكتملة: كشفت السنوات الثلاث عشرة الماضية عن مدى القصور في تحركات الأمم المتحدة تجاه الأزمة الليبية؛ إذ لم ينجح المبعوثون الأمميون كافة، منذ إرسال أول مبعوث إلى ليبيا في إبريل 2011، وصولاً إلى استقالة المبعوث التاسع، في 16 إبريل الماضي؛ في إيجاد مخرج أو وضع حد لدوامة الإخفاقات المتكررة في المسار السياسي الليبي، وذلك على الرغم من أن بعضهم امتلك الكثير من الخبرة السياسية في إدارة مثل هذه الأزمات.
ويُثير تعدد المبعوثين في ليبيا وعدم القدرة على تحقيق اختراقات كبيرة، تساؤلات حول غياب الفعالية وتراجع التأثير، وما إذا كانت الأمم المتحدة تفتقد للآليات التي يمكن من خلالها التعاطي مع تأزم الموقف في ليبيا أم أنها تظل مقيدة بالصلاحيات والمسؤوليات المُخولة إليها من قِبل مجلس الأمن، والتي تجعل دورها قاصراً على ممارسة أدوار الوساطة بهدف التوفيق بين أطراف الأزمة.
من ناحية أخرى، لا تمارس بعثة الأمم المتحدة أية ضغوط على أطراف الأزمة، كما لم تلجأ لأية تحركات من شأنها أن تُجبر الفاعلين في ليبيا على التجاوب مع ما يتم طرحه بشأن تسويتها؛ ما يجعل أدوارها منقوصة وغير مكتملة. وقد تكون تعقيدات المشهد في ليبيا جزءاً من غياب فعالية البعثة الأممية، وهذا ما عبّر عنه باتيلي في أعقاب استقالته؛ إذ قال: "في هذه الظروف، ليس لدى الأمم المتحدة أي وسيلة للتحرك بنجاح".
2- إشكالية الأولويات والترتيبات المؤقتة: طرحت التحولات الراهنة في ليبيا وحالة الانسداد تساؤلات حول ما يمكن أن تكون عليه المرحلة التالية لاستقالة باتيلي، وما يمكن أن تقدمه نائبة رئيس البعثة الأمريكية، ستيفاني خوري، التي تم تعيينها في مارس الماضي، والتي ستباشر أعمال المبعوث الأممي بالإنابة في ليبيا خلال الفترة المقبلة.
وفي الواقع ليس أمام ستيفاني بدائل كثيرة؛ إذ إن مساحة حركتها ستكون محكومة بمسارين: الأول يدور حول إمكانية السير على نفس خُطى باتيلي، عبر الدعوة لإحياء مبادرته للحوار مع الأطراف الليبية ومنحها زخماً دولياً، والعمل على معالجة ما بها من قصور؛ بهدف استيعاب مطالب الأطراف الداخلية التي رفضت الانخراط فيها.
من ناحية ثانية، يمكن أن تتجه ستيفاني لتقديم طرح بديل، ويُرجح أن تكون خطواتها القادمة أشبه بالتحركات التي لجأت إليها مواطنتها ستيفاني ويليامز، عندما أطلقت ملتقى الحوار السياسي بمشاركة 75 ليبياً، وأفضى إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبدالحميد الدبيبة. وفي حال اختيارها هذا المسار، من المتوقع أن تنجح في إنجازه، خاصةً أن الفاعلين في المشهد سينظرون إلى مثل هذه المبادرة باعتبارها طرحاً أمريكياً بالأساس؛ ما قد يمثل عامل ضغط عليهم.
ويواجه هذا المسار عدة تعقيدات، منها إنه قد يُعيد الأمور مرة أخرى إلى "مربع الصفر"، كما يطرح إشكالية أخرى تتعلق بشكل وطبيعة المراحل الانتقالية؛ إذ تشير الخبرة التاريخية في ليبيا إلى قدرة الأمم المتحدة عبر مبعوثيها على إنتاج مراحل انتقالية متعاقبة تنتج عنها إدارات مؤقتة، وذلك قبل أن تتوقف عند هذه النقطة دون الانتقال للخطوة التالية المتمثلة في استكمال المسار السياسي.
3- معضلة الفاعلين الخمسة: أنتجت التفاعلات السياسية والعسكرية في ليبيا خريطة نفوذ لأصحاب المصالح والفاعلين الرئيسيين، وبمرور الوقت أصبحت هناك سلطة ومؤسسات أمر واقع؛ إذ باتت الأطراف الخمسة الفاعلة ممثلة في رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكاله، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، ورئيس حكومة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، والقائد العام للجيش الليبي، المشير خليفة حفتر. وهذه الأطراف الرئيسية متحكمة في المشهد الليبي ولديها القدرة على عرقلة أي مسار للانتقال السياسي، خاصةً إذا ما تعارض مع مصالحها؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مدى إمكانية تحقيق انفراجة في ظل ترسيخ هؤلاء الكبار الخمسة لسياسة الأمر الواقع؛ وهي إحدى الإشكاليات الرئيسية التي من الصعب تجاوزها في ليبيا؛ بمعنى آخر لا يمكن إنتاج أية تفاعلات بعيدة عن الأجسام السياسية والعسكرية المعبرة عنهم. كما أن فكرة الإطاحة بكل هؤلاء من المشهد تواجه تعقيدات سياسية واجتماعية، وعليه فإن أقصى ما يمكن أن يتم في هذا الأمر؛ العمل على ممارسة مزيد من الضغوط على هذه الأجسام لإجبارها على تقديم تنازلات والتخلي عن مواقفها المختلفة تجاه مساعي التسوية.
وتصطدم فكرة التنازلات بالمصالح المتضاربة لتلك الأطراف الليبية. فعلى سبيل المثال، يتفق الخمسة الكبار في ليبيا – ولو نظرياً- على فكرة إجراء الانتخابات، إلا أن هذا الاتفاق دوماً ما يتعثر بسبب مماطلة البعض وقدرته على المناورة، وذلك في ضوء التباينات حول الآليات التي يمكن أن تتم من خلالها الانتخابات ومن يشرف على تنظيمها. ففي الوقت الذي تصر فيه حكومة الوحدة الوطنية على إجراء الانتخابات تحت مظلتها، يرى مجلس النواب ضرورة تشكيل حكومة جديدة تتولى مهمة تهيئة الأجواء لعملية الانتقال السياسي.
من ناحية أخرى، تبقى فكرة دمج الحكومتين مطروحة كآلية لإنهاء الانقسام الحكومي الراهن، بيد أن هذا الطرح يُواجه برفض من قِبل الفاعلين الرئيسيين في المشهد الليبي، وقد يحتاج تنفيذه إلى مزيد من الضغوط عليهم للقبول به. ويبدو أن أطراف الأزمة تفضل الوضع الراهن وحالة الجمود التي تسيطر عليه، باعتبارها الأنسب لتحقيق مصالح الكل. وهو ما أشار إليه باتيلي في أعقاب استقالته؛ إذ اتهم المسؤولين الليبيين بتغليب مصالحهم الشخصية على مصالح البلاد، واصفاً سلوكهم بــ"الأناني"، وداعياً مجلس الأمن إلى ضرورة الضغط عليهم وإجبارهم على الحوار لتسوية الخلافات.
4- تجزئة الملفات وغياب الشمولية: تبقى معضلة التسوية في ليبيا مرتبطة بعملية ترتيب الأولويات حول القضايا والملفات المطروحة؛ بمعنى هل يجب أن تُعطى الأولوية للمسار العسكري أم للسياسي أم للاقتصادي؟ وهل من الأجدى الاستمرار في تجزئة الملفات وفقاً لحسابات المرحلة والضرورة، أم أن هناك حاجة لإعادة النظر في هذه الملفات باعتبارها كتلة واحدة ومترابطة.
فعلى سبيل المثال، استمرت المعالجة المنقوصة للملف الأمني قائمة خلال السنوات الماضية. وعلى الرغم من نجاح اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في تثبيت وقف إطلاق النار، وعدم الدخول في مواجهات كبرى، فإنها أخفقت في عملية توحيد الجيش الليبي والتعاطي مع أزمة المقاتلين الأجانب في البلاد، كما فشلت في تحييد دور المليشيات والجماعات المسلحة.
كذلك تعثرت جهود المصالحة الوطنية بعدما اتسع نطاق الخلاف بين أطرافها؛ ما أفضى إلى عدم انعقاد المؤتمر الوطني للمصالحة، والذي كان مقرراً له الانعقاد في سرت يوم 28 إبريل الماضي. فيما لم يستحوذ الملف الاقتصادي على قدر كافٍ من الاهتمام، بالرغم من أنه من مسببات الأزمة في ليبيا.
كما أن التسوية السياسية على الرغم من أنها حازت على النصيب الأكبر من التفاعلات، فإن ذلك لم يؤد إلى تحقيق طفرة أو نقلة نوعية في هذا الملف، بل إن أي تقدم في المسار السياسي كان يقود إلى مزيد من الإشكاليات، خاصةً أنه كان يخلق مراحل انتقالية جديدة وإدارة مؤقتة تعمل على التمسك بالسلطة لأطول مدة ممكنة. ويبدو أن هذه الإشكاليات ستظل عالقة دون تحقيق تقدم أو إنجاز بخصوصها، ويدعم ذلك الانقسام والخلافات الحادة بين المكونات الليبية، واستمرار الصراع على السلطة، علاوة على بروز دور المؤسسات الموازية، وغيرها من الظواهر.
5- التنافس الروسي الغربي: يُعد التنافس على مساحات ومناطق النفوذ في ليبيا أحد القيود الرئيسة أمام مسار التسوية، وهذا ما عبّر عنه باتيلي قبل استقالته، معتبراً أن "ليبيا أصبحت ساحة للتنافس الشرس بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، التي تتدافع بشكل متجدد من أجل الحصول على موقع ليبيا ومواردها، وهذا ما يجعل الحل بعيد المنال"، من وجهة نظره. وثمة اهتمام دولي بالساحة الليبية على الرغم من الانشغال بالحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
فعلى سبيل المثال، ترى بعض التقديرات أن عملية هندسة مهمة البعثة الأممية في ليبيا بهذا الشكل وتولي ستيفاني خوري قيادتها، قد تكون مدفوعة برغبة أمريكية في تأمين مزيد من النفوذ ورغبة في الإمساك بزمام الأمور خاصةً فيما يتعلق بالترتيبات المستقبلية. كما كشفت بعض التقارير الغربية، في مارس الماضي، عن وصول عناصر من الشركة الأمنية الأمريكية "أمنتوم" إلى ليبيا لتوفير التدريب لمجموعات مسلحة غرب البلاد من أجل دمجها في القوات الرسمية. يُضاف إلى ذلك، التحركات الدبلوماسية المتنامية التي قام بها المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، والقائم بأعمال السفير الأمريكي، جيريمي برنت، من خلال عقد لقاءات مع الأطراف الرئيسية في شرق ليبيا وغربها.
ويُعد هذا التحول جزءاً من استراتيجية واشنطن لاحتواء أو موازنة النفوذ الروسي في ليبيا، خاصةً في ظل المخاوف الأمريكية من خطة موسكو لتحويل ليبيا إلى نقطة ارتكاز لتعزيز حضورها في إفريقيا، بعدما تصاعد مؤخراً الحديث عن مساعي روسيا لتشكيل الفيلق العسكري الإفريقي في ليبيا. وهذا يعني أن ليبيا مؤهلة لأن تصبح حلبة صراع بين روسيا والغرب في ظل رغبة الطرفين في تعزيز النفوذ في القارة السمراء؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة الليبية وصعوبة إنجاز تسوية لها.
في الأخير؛ لا تزال الأزمة الليبية تعاني الكثير من التعقيدات التي قد يصعب تجاوزها؛ وعليه لا يُرجح أن تشهد ليبيا في المدى المنظور تحولات تقود إلى تغيير في النموذج والنمط العام الحاكم للصراع هناك؛ وهذا يعني أن الحديث عن انفراجة قريبة وكبيرة في المشهد الليبي، يظل بعيد المنال، وذلك على الرغم من أن الخطاب العام للفاعلين في هذا البلد يسير في اتجاه الدعوة لإنهاء المراحل الانتقالية والتوجه نحو تسوية الأزمة.